فصل: فَصْلٌ: الْحَلِفُ عَلَى الْكَلَامِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: الْحَلِفُ عَلَى الْكَلَامِ:

وَأَمَّا الْحَلِفُ عَلَى الْكَلَامِ فَالْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ وَهُوَ الْكَلَامُ قَدْ يَكُونُ مُؤَبَّدًا، وَقَدْ يَكُونُ مُطْلَقًا، وَقَدْ يَكُونُ مُؤَقَّتًا، أَمَّا الْمُؤَبَّدُ فَهُوَ أَنْ يَحْلِفَ أَنْ لَا يُكَلِّمَ فُلَانًا أَبَدًا فَهُوَ عَلَى الْأَبَدِ لَا شَكَّ فِيهِ، لِأَنَّهُ نَصَّ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا الْمُطْلَقُ فَهُوَ أَنْ يَحْلِفَ أَنْ لَا يُكَلِّمَ فُلَانًا وَلَا يَذْكُرَ الْأَبَدَ وَهَذَا أَيْضًا عَلَى الْأَبَدِ حَتَّى لَوْ كَلَّمَهُ فِي أَيِّ وَقْتٍ، كَلَّمَهُ فِي لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ وَفِي أَيِّ مَكَان كَانَ وَعَلَى أَيِّ حَالٍ حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ مَنَعَ نَفْسَهُ مِنْ كَلَامِ فُلَانٍ لِيَبْقَى الْكَلَامُ مِنْ قِبَلِهِ عَلَى الْعَدَمِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ الْعَدَمُ إلَّا بِالِامْتِنَاعِ مِنْ الْكَلَامِ فِي جَمِيعِ الْعُمْرِ، فَإِنْ نَوَى شَيْئًا دُونَ شَيْءٍ بِأَنْ نَوَى يَوْمًا أَوْ وَقْتًا أَوْ بَلَدًا أَوْ مَنْزِلًا لَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ وَلَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِأَنَّهُ نَوَى تَخْصِيصَ مَا لَيْسَ بِمَلْفُوظٍ فَلَا يُصَدَّقُ رَأْسًا وَلَا يَحْنَثُ حَتَّى يَكُونَ مِنْهُ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ بَعْدَ الْيَمِينِ فَيَنْقَطِعُ عَنْهَا، فَإِنْ كَانَ مَوْصُولًا لَمْ يَحْنَثْ؛ بِأَنْ قَالَ: إنْ كَلَّمْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَاذْهَبِي أَوْ فَقُومِي فَلَا يَحْنَثُ بِقَوْلِهِ فَاذْهَبِي أَوْ فَقُومِي.
كَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ لِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِالْيَمِينِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ لَا أُكَلِّمُ أَوْ إنْ كَلَّمْتُكِ يَقَعُ عَلَى الْكَلَامِ الْمَقْصُودِ بِالْيَمِينِ وَهُوَ مَا يُسْتَأْنَفُ بَعْدَ تَمَامِ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ، وَقَوْلُهُ فَاذْهَبِي أَوْ فَقُومِي وَإِنْ كَانَ كَلَامًا حَقِيقَةً فَلَيْسَ بِمَقْصُودٍ بِالْيَمِينِ فَلَا يَحْنَثُ بِهِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَهُ بِحَرْفِ الْعَطْفِ دَلَّ أَنَّهُ لَيْسَ بِكَلَامٍ مُبْتَدَإٍ.
وَكَذَا إذَا قَالَ: وَاذْهَبِي لِمَا قُلْنَا، فَإِنْ أَرَادَ بِهِ كَلَامًا مُسْتَأْنَفًا يُصَدَّقُ؛ لِأَنَّهُ كَلَامٌ حَقِيقَةً وَفِيهِ تَشْدِيدٌ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ فَاذْهَبِي الطَّلَاقَ فَإِنَّهَا تَطْلُقُ بِقَوْلِهِ فَاذْهَبِي لِأَنَّهُ مِنْ كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ، وَيَقَعُ عَلَيْهَا تَطْلِيقَةٌ أُخْرَى بِالْيَمِينِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ فَقَدْ صَارَ كَلَامًا مُبْتَدَأً فَيَحْنَثُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْحَالِ الَّتِي حَلَفَ مَا يَدُلُّ عَلَى تَخْصِيصِ الْيَمِينِ كَانَتْ خَاصَّةً؛ بِأَنْ قَالَ لَهُ رَجُلٌ كَلِّمْ لِي زَيْدًا الْيَوْمَ فِي كَذَا فَيَقُولُ: وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُهُ، يَقَعُ هَذَا عَلَى الْيَوْمِ دُونَ غَيْرِهِ بِدَلَالَةِ الْحَالِ، وَعَلَى هَذَا قَالُوا: لَوْ قَالَ ائْتِنِي الْيَوْمَ، فَقَالَ: امْرَأَتِي طَالِقٌ إنْ أَتَيْتُكَ فَهَذَا عَلَى الْيَوْمِ.
وَكَذَا إذَا قَالَ: ائْتِنِي فِي مَنْزِلِي، فَحَلَفَ بِالطَّلَاقِ لَا يَأْتِيهِ فَهُوَ عَلَى الْمَنْزِلِ، وَهَذَا إذَا لَمْ يَطُلْ الْكَلَامُ بَيْنَ دَلَالَةِ التَّخْصِيصِ وَبَيْنَ الْيَمِينِ، فَإِنْ طَالَ كَانَتْ الْيَمِينُ عَلَى الْأَبَدِ، فَإِنْ قَالَ: لِمَ لَا تَلْقَنِي فِي الْمَنْزِلِ وَقَدْ أَسَأْتَ فِي تَرْكِكَ لِقَائِي وَقَدْ أَتَيْتُك غَيْرَ مَرَّةٍ فَلَمْ أَلْقَكَ، فَقَالَ الْآخَرُ: امْرَأَتُهُ طَالِقٌ إنْ أَتَاكَ فَهَذَا عَلَى الْأَبَدِ وَعَلَى كُلِّ مَنْزِلٍ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ كَثِيرٌ فِيمَا بَيْنَ ابْتِدَائِهِ بِذِكْرِ الْمَنْزِلِ وَبَيْنَ الْمَنْزِلِ وَبَيْنَ الْحَلِفِ فَانْقَطَعَتْ الْيَمِينُ عَنْهُ وَصَارَتْ يَمِينًا مُبْتَدَأَةً، فَإِنْ نَوَى هَذَا الْإِتْيَانِ فِي الْمَنْزِلِ دِينَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَمْ يُدَيَّنْ فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ، لَكِنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ.
وَلَوْ صَلَّى الْحَالِفُ خَلْفَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ فَسَهَا الْإِمَامُ فَسَبَّحَ بِهِ الْحَالِفُ أَوْ فَتَحَ عَلَيْهِ بِالْقِرَاءَةِ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يُسَمَّى كَلَامًا فِي الْعُرْفِ وَإِنْ كَانَ كَلَامًا فِي الْحَقِيقَةِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ الْكَلَامَ الْعُرْفِيَّ يُبْطِلُ الصَّلَاةُ بِهِ؟ وَهَذَا لَا يُبْطِلُهَا، وَقَدْ قَالُوا فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَتَكَلَّمُ فَصَلَّى: أَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ يَحْنَثَ؛ لِأَنَّ التَّكْبِيرَ وَالْقِرَاءَةَ كَلَامٌ حَقِيقَةً، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى كَلَامًا عُرْفًا.
أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ يَقُولُونَ فُلَانٌ لَا يَتَكَلَّمُ فِي صَلَاتِهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ قَرَأَ فِيهَا، وَلَوْ قَرَأَ الْقُرْآنَ خَارِجَ الصَّلَاةِ يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ تَكَلَّمَ حَقِيقَةً،.
وَقِيلَ: هَذَا إذَا كَانَ الْحَالِفُ مِنْ الْعَرَبِ، فَإِنْ كَانَ الْحَالِفُ مِنْ الْعَجَمِ أَوْ كَانَ لِسَانُهُ غَيْرَ لِسَانِ الْعَرَبِ لَا يَحْنَثُ، سَوَاءٌ قَرَأَ فِي الصَّلَاةِ أَوْ خَارِجَ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ مُتَكَلِّمًا وَلَوْ سَبَّحَ تَسْبِيحَةً أَوْ كَبَّرَ أَوْ هَلَّلَ خَارِجَ الصَّلَاةِ يَحْنَثُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَحْنَثُ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا، لِأَنَّهُ وُجِدَ الْكَلَامُ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّا تَرَكْنَا الْحَقِيقَةَ حَالَةَ الصَّلَاةِ بِالْعُرْفِ وَلَا عُرْفَ خَارِجَ الصَّلَاةِ،.
وَقِيلَ: هَذَا فِي عُرْفِهِمْ.
فَأَمَّا فِي عُرْفِنَا فَلَا يَحْنَثُ خَارِجَ الصَّلَاةِ أَيْضًا لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى كَلَامًا فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا، وَلَوْ فَتَحَ عَلَيْهِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ حَنِثَ لِأَنَّهُ كَلَامٌ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّهُ تَرَكَ الْحَقِيقَةَ فِي الصَّلَاةِ لِلْعُرْفِ، فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ هُوَ الْحَالِفَ وَالْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ خَلْفَهُ فَسَلَّمَ لَمْ يَحْنَثْ بِالتَّسْلِيمَةِ الْأُولَى وَإِنْ كَانَ عَلَى يَمِينِهِ وَنَوَاهُ لِأَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ، وَسَلَامُ الصَّلَاةِ لَا يُعَدُّ كَلَامًا كَتَكْبِيرِهَا وَالْقِرَاءَةِ فِيهَا.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ؟ وَلَوْ كَانَ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ لَكَانَ مُفْسِدًا، وَإِنْ كَانَ عَلَى يَسَارِهِ فَنَوَاهُ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، قَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: يَحْنَثُ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَحْنَثُ، وَإِنْ كَانَ الْمُقْتَدِي هُوَ الْحَالِفَ فَكَذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُقْتَدِي لَا يَصِيرُ خَارِجًا عَنْ الصَّلَاةِ بِسَلَامِ الْإِمَامِ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَحْنَثُ لِأَنَّهُ خَارِجٌ عَنْ صَلَاتِهِ بِسَلَامِ الْإِمَامِ عِنْدَهُ، فَقَدْ تَكَلَّمَ كَلَامًا خَارِجَ الصَّلَاةِ فَيَحْنَثُ، وَلَوْ مَرَّ الْحَالِفُ عَلَى جَمَاعَةٍ فِيهِمْ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ حَنِثَ لِأَنَّهُ كَلَّمَ جَمَاعَتَهُمْ بِالسَّلَامِ، فَإِنْ نَوَى الْقَوْمَ دُونَهُ لَمْ يَحْنَثْ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ ذِكْرَ الْكُلِّ عَلَى إرَادَةِ الْبَعْضِ جَائِزٌ، وَلَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَلَوْ نَبَّهَ الْحَالِفُ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ مِنْ النَّوْمِ حَنِثَ وَإِنْ لَمْ يَنْتَبِهْ لِأَنَّ الصَّوْتَ يَصِلُ إلَى سَمْعِ النَّائِمِ لَكِنَّهُ لَا يُفْهَمُ فَصَارَ كَمَا لَوْ كَلَّمَهُ وَهُوَ غَافِلٌ، وَلِأَنَّ مِثْلَ هَذَا يُسَمَّى كَلَامًا فِي الْعُرْفِ كَتَكَلُّمِ الْغَافِلِ فَيَحْنَثُ، وَلَوْ دَقَّ عَلَيْهِ الْبَابَ فَقَالَ مَنْ هَذَا أَوْ مَنْ أَنْتَ؟ حَنِثَ لِأَنَّهُ كَلَّمَهُ بِالِاسْتِفْهَامِ، وَلَوْ كَانَ فِي مَكَانَيْنِ فَدَعَاهُ أَوْ كَلَّمَهُ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِحَيْثُ يَسْمَعُ مِثْلُهُ لَوْ أَصْغَى إلَيْهِ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْهُ، وَإِنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ لَا يَسْمَعُ فِي مِثْلِهِ عَادَةً فَإِنْ أَصْغَى إلَيْهِ لِبُعْدِ مَا بَيْنَهُمَا لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّ الْمَوْضِعَ إذَا كَانَ قَرِيبًا بِحَيْثُ يَسْمَعُ مِثْلُهُ عَادَةً يُسَمَّى مُكَلِّمًا إيَّاهُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ لِعَارِضٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إذَا كَانَ بَعِيدًا، وَلِأَنَّهُ إذَا كَانَ قَرِيبًا يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ وَصَلَ الصَّوْتُ إلَى سَمْعِهِ لَكِنَّهُ لَمْ يَفْهَمْهُ فَأَشْبَهَ الْغَافِلَ، وَإِذَا كَانَ بَعِيدًا لَا يَصِلُ إلَيْهِ رَأْسًا، وَقَالُوا فِيمَنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ إنْسَانًا فَكَلَّمَ غَيْرَهُ وَهُوَ يَقْصِدُ أَنْ يَسْمَعَهُ لَمْ يَحْنَثْ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يُسَمَّى مُكَلِّمًا إيَّاهُ إذَا لَمْ يَقْصِدْهُ بِالْكَلَامِ.
وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ امْرَأَتَهُ فَدَخَلَ دَارِهِ وَلَيْسَ فِيهَا غَيْرُهَا فَقَالَ مَنْ وَضَعَ هَذَا؟ أَوْ أَيْنَ هَذَا؟؟ حَنِثَ؛ لِأَنَّهُ كَلَّمَهَا حَيْثُ اسْتَفْهَمَ وَلَيْسَ هُنَاكَ غَيْرُهَا لِئَلَّا يَكُونَ لَاغِيًا، فَإِنْ كَانَ فِي الدَّارِ غَيْرُهَا لَمْ يَحْنَثْ لِجَوَازِ أَنَّهُ اسْتَفْهَمَ غَيْرَهَا، فَإِنْ قَالَ لَيْتَ شِعْرِي مَنْ وَضَعَ هَذَا؟ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّهُ لَمْ يُكَلِّمْهَا وَإِنَّمَا كَلَّمَ نَفْسَهُ.
وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا فَكَتَبَ إلَيْهِ كِتَابًا فَانْتَهَى الْكِتَابُ إلَيْهِ، أَوْ أَرْسَلَ إلَيْهِ رَسُولًا فَبَلَّغَ الرِّسَالَةَ إلَيْهِ لَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ لَا تُسَمَّى كَلَامًا.
وَكَذَا الرِّسَالَةُ.
(وَأَمَّا) الْمُوَقَّتُ فَنَوْعَانِ: مُعَيَّنٌ وَمُبْهَمٌ.
(أَمَّا) الْمُعَيَّنُ: فَنَحْوُ أَنْ يَحْلِفَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا يَوْمًا فَيَحْنَثُ بِكَلَامِهِ مِنْ حِينِ حَلَفَ إلَى أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ مِنْ الْغَدِ فَيَدْخُلُ فِي يَمِينِهِ بَقِيَّةُ اللَّيْلِ، حَتَّى لَوْ كَلَّمَهُ فِيمَا بَقِيَ مِنْ اللَّيْلِ أَوْ فِي الْغَدِ يَحْنَثُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ لَا أُكَلِّمُ فُلَانًا يَقَعُ عَلَى الْأَبَدِ وَيَقْتَضِي مَنْعَ نَفْسِهِ عَنْ كَلَامِ فُلَانٍ أَبَدًا لَوْلَا قَوْلُهُ يَوْمًا فَكَانَ قَوْلُهُ يَوْمًا لِإِخْرَاجِ مَا وَرَاءَهُ عَنْ الْيَمِينِ فَيَبْقَى زَمَانُ مَا بَعْدَ الْيَمِينِ بِلَا فَصْلٍ دَاخِلًا تَحْتَهَا فَيَدْخُلُ فِيهَا بَقِيَّةُ تِلْكَ اللَّيْلَةِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ بِالنَّهَارِ لَا يُكَلِّمُهُ لَيْلَةً أَنَّهُ يَحْنَثُ بِكَلَامِهِ مِنْ حِينِ حَلَفَ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ حَلَفَ فِي بَعْضِ النَّهَارِ لَا يُكَلِّمُهُ يَوْمًا فَالْيَمِينُ عَلَى بَقِيَّةِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ إلَى مِثْلِ تِلْكَ السَّاعَةِ الَّتِي حَلَفَ فِيهَا مِنْ الْغَدِ لِأَنَّهُ حَلَفَ عَلَى يَوْمٍ مُنَكَّرٍ فلابد مِنْ اسْتِيفَائِهِ، وَلَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ إلَّا بِإِتْمَامِهِ مِنْ الْيَوْمِ الثَّانِي فَيَدْخُلُ اللَّيْلُ مِنْ طَرِيقِ التَّبَعِ، وَكَذَلِكَ إذَا حَلَفَ لَيْلًا لَا يُكَلِّمُهُ لَيْلَةً فَالْيَمِينُ مِنْ تِلْكَ السَّاعَةِ إلَى أَنْ يَجِيءَ مِثْلُهَا مِنْ اللَّيْلَةِ الْمُقْبِلَةِ، وَيَدْخُلُ النَّهَارُ الَّذِي بَيْنَهُمَا فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ حَلَفَ عَلَى لَيْلَةٍ مُنَكَّرَةٍ فلابد مِنْ الِاسْتِيفَاءِ مِنْهَا وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَا.
فَإِنْ قَالَ فِي بَعْضِ الْيَوْمِ: وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُكِ الْيَوْمَ فَالْيَمِينُ عَلَى بَاقِي الْيَوْمِ، فَإِذَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ سَقَطَتْ الْيَمِينُ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ بِاللَّيْلِ: وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُكِ اللَّيْلَةَ فَإِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ سَقَطَتْ لِأَنَّهُ حَلَفَ عَلَى زَمَانٍ مُعَيَّنٍ لِأَنَّهُ أَدْخَلَ لَامَ التَّعْرِيفِ عَلَى الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ فَلَا يَتَنَاوَلُ غَيْرَ الْمُعَرَّفِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ يَوْمًا؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْيَوْمَ مُنَكَّرًا فلابد مِنْ اسْتِيفَائِهِ وَذَلِكَ مِنْ الْيَوْمِ الثَّانِي، وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ شَهْرًا يَقَعُ عَلَى ثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَلَوْ قَالَ الشَّهْرَ يَقَعُ عَلَى بَقِيَّةِ الشَّهْرِ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ السَّنَةَ يَقَعُ عَلَى بَقِيَّةِ السَّنَةِ، وَلَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُكِ الْيَوْمَ وَلَا غَدًا فَالْيَمِينُ عَلَى بَقِيَّةِ الْيَوْمِ وَعَلَى غَدٍ وَلَا تَدْخُلُ اللَّيْلَةُ الَّتِي بَيْنَهُمَا فِي الْيَمِينِ، رَوَى ذَلِكَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لِأَنَّهُ أَفْرَدَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَقْتَيْنِ بِحَرْفِ النَّفْيِ فَيَصِيرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنْفِيًّا عَلَى الِانْفِرَادِ، أَصْلُهُ قَوْله تَعَالَى: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ}.
فَلَا تَدْخُلُ اللَّيْلَةُ الْمُتَخَلِّلَةُ بَيْنَ الْوَقْتَيْنِ.
وَلَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُكِ الْيَوْمَ وَغَدًا دَخَلَتْ اللَّيْلَةُ الَّتِي بَيْنَ الْيَوْمِ وَالْغَدِ فِي يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ هاهنا جَمَعَ بَيْنَ الْوَقْتِ الثَّانِي وَبَيْنَ الْأَوَّلِ بِحَرْفِ الْجَمْعِ وَهُوَ الْوَاوُ فَصَارَ وَقْتًا وَاحِدًا فَدَخَلَتْ اللَّيْلَةُ الْمُتَخَلِّلَةُ.
وَرَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ اللَّيْلَةَ لَا تَدْخُلُ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ الْيَمِينَ عَلَى النَّهَارِ وَلَا ضَرُورَةَ تُوجِبُ إدْخَالَ اللَّيْلِ فَلَا يَدْخُلُ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ يَوْمَيْنِ تَدْخُلُ فِيهِ اللَّيْلَةُ سَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ أَوْ بَعْدَهُ، وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي اللَّيْلِ، وَلَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُكِ يَوْمًا وَلَا يَوْمَيْنِ فَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُكِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، حَتَّى لَوْ كَلَّمَهُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ أَوْ الثَّانِي أَوْ الثَّالِثِ يَحْنَثُ، وَكَذَلِكَ رَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، هَكَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ.
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ أَنَّهُ عَلَى يَوْمَيْنِ حَتَّى لَوْ كَلَّمَهُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ أَوْ الثَّانِي يَحْنَثُ، وَإِنْ كَلَّمَهُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ لَا يَحْنَثُ.
وَجْهُ مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ عَطَفَ الْيَوْمَيْنِ عَلَى الْيَوْمِ وَالْمَعْطُوفُ غَيْرُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فَاقْتَضَى يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ غَيْرَ الْأَوَّلِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُ فُلَانًا يَوْمًا وَيَوْمَيْنِ، أَوْ قَالَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ.
وَجْهُ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَمِينٌ مُفْرَدَةٌ لِانْفِرَادِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِكَلِمَةِ النَّفْيِ، وَالْوَاوُ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْيَمِينَيْنِ، وَصَارَ تَقْدِيرُهُ أُكَلِّمُ فُلَانًا يَوْمًا وَلَا أُكَلِّمُهُ يَوْمَيْنِ لِئَلَّا تَلْغُو كَلِمَةُ النَّفْيِ فَصَارَ لِكُلِّ يَمِينٍ مُدَّةٌ عَلَى حِدَةٍ فَصَارَ عَلَى الْيَوْمِ الْأَوَّلِ يَمِينَانِ وَعَلَى الْيَوْمِ الثَّانِي يَمِينٌ وَاحِدٌ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُ فُلَانًا يَوْمًا وَيَوْمَيْنِ فَكَلَّمَهُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ أَنَّهُ يَحْنَثُ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُعِدْ كَلِمَةَ النَّفْيِ فَلَمْ يُوجَدْ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ نَفْيَ الْكَلَامِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ عَلَى حِدَةٍ لِيَكُونَ يَمِينَيْنِ فَبَقِيَ يَمِينًا وَاحِدَةً، وَالْوَاوُ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْمُدَّتَيْنِ كَمَا لَوْ جَمَعَ بَيْنَ الْمُدَّتَيْنِ بِكَلِمَةِ الْجَمْعِ فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُ فُلَانًا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ لَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُ زَيْدًا وَلَا عَمْرًا فَكَلَّمَ أَحَدَهُمَا يَحْنَثُ، وَلَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُ زَيْدًا وَعَمْرًا فَمَا لَمْ يُكَلِّمْهُمَا لَا يَحْنَثُ.
وَقَالَ بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ لَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَدْخُلُ الدَّارَ يَوْمًا وَيَوْمًا فَهُوَ مِثْلُ حَلِفِهِ عَلَى يَوْمَيْنِ.
قَالَ أَبُو يُوسُفَ: وَلَا يُشْبِهُ هَذَا قَوْلُهُ وَلَا أَدْخُلُهَا الْيَوْمَ وَغَدًا، لِأَنَّ قَوْلَهُ يَوْمًا وَيَوْمًا عَطْفُ زَمَانٍ مُنَكَّرٍ عَلَى زَمَانٍ مُنَكَّرٍ فَصَارَ كَقَوْلِهِ يَوْمَيْنِ فَيَدْخُلُ اللَّيْلُ، وَقَوْلَهُ الْيَوْمَ وَغَدًا عَطْفُ زَمَانٍ مُعَيَّنٍ عَلَى زَمَانٍ مُعَيَّنٍ وَلَا ضَرُورَةَ إلَى إدْخَالِ اللَّيْلِ فِيهِ فَلَا يَدْخُلُ، وَلَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُ زَيْدًا يَوْمًا وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُهُ يَوْمَيْنِ وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَالْيَوْمُ الْأَوَّلُ مِنْ حِينِ فَرَغَ مِنْ الْيَمِينِ الثَّالِثَةِ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَالْيَوْمُ الثَّانِي عَلَيْهِ يَمِينَانِ: الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ، وَالْيَوْمُ الثَّالِثُ عَلَيْهِ يَمِينٌ وَاحِدَةٌ وَهِيَ الثَّالِثَةُ، لِأَنَّ كُلَّ يَمِينٍ ذَكَرَهَا تَخْتَصُّ بِمَا يَعْقُبُهَا فَانْعَقَدَتْ الْيَمِينُ الْأُولَى عَلَى الْكَلَامِ فِي يَوْمٍ عَقِيبَ الْيَمِينِ، وَالثَّانِيَةُ فِي يَوْمَيْنِ عَقِيبَ الْيَمِينِ، وَالثَّالِثَةُ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ عَقِيبَ الْيَمِينِ، فَانْعَقَدَتْ عَلَى الْكَلَامِ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ ثَلَاثَةُ أَيْمَانٍ، وَعَلَى الثَّانِي يَمِينَانِ، وَعَلَى الثَّالِثِ وَاحِدَةٌ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ مَا رَوَى دَاوُد بْنُ رَشِيدٍ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُكَ الْيَوْمَ سَنَةً، أَوْ لَا أُكَلِّمُك الْيَوْمَ شَهْرًا؛ فَعَلَيْهِ أَنْ يَدَعَ كَلَامَهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ شَهْرًا وَفِي ذَلِكَ الْيَوْمِ سَنَةً حَتَّى يُكْمِلَ كُلَّمَا دَارَ ذَلِكَ الْيَوْمُ فِي ذَلِكَ الشَّهْرِ أَوْ فِي تِلْكَ السَّنَةِ؛ لِأَنَّ الْيَوْمَ الْوَاحِدَ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ شَهْرًا أَوْ سَنَةً فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُرَادَ الْحَالِفِ فَكَانَ مُرَادُهُ أَنْ لَا يُكَلِّمُهُ فِي مِثْلِهِ شَهْرًا أَوْ سَنَةً، فَإِنْ قَالَ: لَا أُكَلِّمُك الْيَوْمَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ وَهُوَ فِي يَوْمِ السَّبْتِ فَهَذَا عَلَى سَبَّتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْيَوْمَ لَا يَكُونُ عَشَرَةَ أَيَّامٍ فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُرَادًا فَيَقَعُ عَلَى عَشَرَةِ أَيَّامٍ لِأَنَّهُ لَا يَدُورُ فِي عَشَرَةِ أَيَّامٍ أَكْثَرُ مِنْ سَبْتٍ وَاحِدٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُكِ السَّبْتَ مَرَّتَيْنِ كَانَ عَلَى سَبَّتَيْنِ؛ لِأَنَّ السَّبْتَ لَا يَكُونُ يَوْمَيْنِ فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ مَرَّتَيْنِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: لَا أُكَلِّمُكِ يَوْمَ السَّبْتِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ كَانَ كُلُّهَا يَوْمَ السَّبْتِ لِمَا بَيَّنَّا، وَلَوْ قَالَ لَا أُكَلِّمُك يَوْمًا مَا أَوْ لَا أُكَلِّمُك يَوْمَ السَّبْتِ يَوْمًا فَلَهُ أَنْ يَجْعَلَهُ أَيَّ يَوْمٍ شَاءَ لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى يَوْمٍ شَائِعٍ فِي أَيَّامٍ، فَكَانَ التَّعْيِينُ إلَيْهِ.
وَقَالَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ قَالَ لَا أُكَلِّمُكِ يَوْمًا بَيْنَ يَوْمَيْنِ وَلَا نِيَّةَ لَهُ قَالَ: فَكُلُّ يَوْمٍ بَيْنَ يَوْمَيْنِ، وَهُوَ عِنْدِي بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ لَا أُكَلِّمُكَ يَوْمًا فَيَكُونُ عَلَى يَوْمٍ مِنْ سَاعَةِ حَلَفَ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.
(وَأَمَّا) الْمُبْهَمُ: فَنَحْوُ أَنْ يَحْلِفَ أَنْ لَا يُكَلِّمَ فُلَانًا زَمَنًا أَوْ حِينًا أَوْ الزَّمَانَ أَوْ الْحِينَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ يَقَعْ عَلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ؛ لِأَنَّ الْحِينَ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الْوَقْتُ الْقَصِيرُ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} قِيلَ: حِينَ تُمْسُونَ صَلَاةُ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَحِينَ تُصْبِحُونَ صَلَاةُ الْفَجْرِ، وَيُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الْوَقْتُ الطَّوِيلُ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنْ الدَّهْرِ} قِيلَ: الْمُرَادُ مِنْهُ أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَيُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الْوَسَطُ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} قِيلَ: أَيْ سِتَّةُ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ طُلُوعِهَا إلَى وَقْتِ إدْرَاكِهَا.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: هِيَ النَّخْلَةُ، ثُمَّ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ لَا يُحْمَلُ عَلَى الْوَقْتِ الْقَصِيرِ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ تُعْقَدُ لِلْمَنْعِ وَلَا حَاجَةَ إلَى الْيَمِينِ لِلْمَنْعِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّهُ يُمْنَعُ بِدُونِ الْيَمِينِ، وَلَا يُحْمَلُ عَلَى الطَّوِيلِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُرَادُ ذَلِكَ عَادَةً، وَمَنْ أَرَادَ ذَلِكَ بِلَفْظَةِ الْأَبَدِ فَتَعَيَّنَ الْوَسَطُ.
وَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الطَّرَفَيْنِ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ عَنْ صَاحِبِهِ وَالْوَسَطُ قَرِيبٌ مِنْهُمَا فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فِي الْحِينِ ثَبَتَ فِي الزَّمَانِ لِكَوْنِهِمَا مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُتَرَادِفَةِ، وَعَنْ ثَعْلَبٍ أَنَّ الزَّمَانَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، وَإِنْ نَوَى الْحَالِفُ شَيْئًا مِمَّا ذَكَرْنَا فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى؛ لِأَنَّهُ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ وَلَفْظُهُ لِمَا بَيَّنَّا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يُصَدَّقُ فِي الْوَقْتِ الْيَسِيرِ فِي الْحِينِ وَلَا يُصَدَّقُ فِي الزَّمَانِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي الْيَسِيرِ فِي الْحِينِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} وَلَمْ يَثْبُتْ فِي الزَّمَانِ.
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ فِي الْجَامِعِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَدِينُ فِي الزَّمَانِ وَالْحِينِ فِي كُلِّ مَا نَوَى مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَدِينُ فِيمَا دُونَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فِي الْقَضَاءِ، وَلَوْ قَالَ: لَا أُكَلِّمُهُ دَهْرًا وَالدَّهْرَ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ كَانَتْ لَهُ نِيَّةٌ فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَلَا أَدْرِي مَا الدَّهْرُ؟.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: إذَا قَالَ دَهْرًا فَهُوَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، وَإِذَا قَالَ الدَّهْرَ فَهُوَ عَلَى الْأَبَدِ، وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ قَالَ: لَا خِلَافَ فِي الدَّهْرِ الْمَعْرُوفِ أَنَّهُ الْأَبَدُ، وَإِنَّمَا تَوَقَّفَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الدَّهْرِ الْمُنَكَّرِ فَإِنَّهُ قَالَ: إذَا قَالَ دَهْرًا لَا أَدْرِي مَا هُوَ؟ وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ أَنَّ قَوْلَهُ الدَّهْرَ يَنْصَرِفُ إلَى جَمِيعِ الْعُمْرِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ الْخِلَافَ، وَقَوْلَهُ دَهْرًا لَا يُدْرَى تَفْسِيرُهُ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَشَارَ إلَى التَّوَقُّفِ فِي الدَّهْرِ الْمُعَرَّفِ أَيْضًا فَإِنَّهُ قَالَ: وَالدَّهْرُ لَا أَدْرِي مَا هُوَ.
وَرَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي قَوْلِهِ دَهْرًا وَالدَّهْرَ أَنَّهُمَا سَوَاءٌ فَهُمَا جَعَلَا قَوْلَهُ دَهْرًا كَالْحِينِ وَالزَّمَانِ لِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ الْحِينِ وَالزَّمَانِ، يُقَالُ: مَا رَأَيْتُكَ مِنْ دَهْرٍ وَمَا رَأَيْتُكَ مِنْ حِينٍ عَلَى السَّوَاءِ، فَإِذَا أُدْخِلَ عَلَيْهِ الْأَلْفُ وَاللَّامُ صَارَ عِبَارَةً عَنْ جَمِيعِ الزَّمَانِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ قَوْلَهُ الدَّهْرَ يَقَعُ عَلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ لَكِنَّهُ خِلَافُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْهُمَا وَأَبُو حَنِيفَةَ كَأَنَّهُ رَأَى الِاسْتِعْمَالَ مُخْتَلِفًا فَلَمْ يَعْرِفْ مُرَادَ الْمُتَكَلِّمِ عِنْدَ إطْلَاقِ الِاسْمِ فَتَوَقَّفَ.
وَقَالَ لَا أَدْرِي أَيْ لَا أَدْرِي بِمَاذَا يُقَدَّرُ إذْ لَا نَصَّ فِيهِ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَرْبَابِ اللِّسَانِ؟ بِخِلَافِ الْحِينِ وَالزَّمَانِ فَإِنَّ فِيهِمَا نَصًّا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَإِنَّهُ فَسَّرَ قَوْله تَعَالَى: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ وَالزَّمَانُ وَالْحِينُ يُنْبِئَانِ عَنْ مَعْنًى وَاحِدٍ، وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ مِنْ مَشَايِخِنَا إنَّهُ تَوَقَّفَ فِي الْمُنَكَّرِ لَا فِي الْمُعَرَّفِ أَوْ لَمْ يَعْرِفْ حَقِيقَةَ مَعْنَاهُ لُغَةً فَتَوَقَّفَ فِيهِ، وَالتَّوَقُّفُ فِيمَا لَا يُعْرَفُ لِعَدَمِ دَلِيلِ الْمَعْرِفَةِ وَلِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ وَانْعِدَامِ تَرْجِيحِ الْبَعْضِ عَلَى الْبَعْضِ أَمَارَةُ كَمَالِ الْعِلْمِ وَتَمَامِ الْوَرَعِ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ فَقَالَ لَا أَدْرِي، وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «سُئِلَ عَنْ أَفْضَلِ الْبِقَاعِ فَقَالَ: لَا أَدْرِي فَلَمَّا نَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سَأَلَهُ فَعَرَجَ إلَى السَّمَاءِ ثُمَّ هَبَطَ فَقَالَ: سَأَلْت رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ عَنْ أَفْضَلِ الْبِقَاعِ فَقَالَ: الْمَسَاجِدُ، وَأَفْضَلُ أَهْلِهَا مَنْ جَاءَهَا أَوَّلًا وَانْصَرَفَ آخِرًا وَشَرُّ أَهْلِهَا مَنْ جَاءَهَا آخِرًا وَانْصَرَفَ أَوَّلًا».
وَلَوْ قَالَ: يَوْمَ أُكَلِّمُ فُلَانًا فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَكَلَّمَهُ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا يَحْنَثُ.
وَكَذَا إذَا قَالَ يَوْمَ أَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ لِأَنَّ الْيَوْمَ إذَا قُرِنَ بِفِعْلٍ غَيْرِ مُمْتَدٍّ يُرَادُ بِهِ مُطْلَقُ الْوَقْتِ فِي مُتَعَارَفِ أَهْلِ اللِّسَانِ.
قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ} الْآيَةَ وَمَنْ وَلَّى دُبُرَهُ بِاللَّيْلِ يَلْحَقْهُ الْوَعِيدُ كَمَا لَوْ وَلَّى بِالنَّهَارِ فَإِنْ نَوَى بِهِ اللَّيْلَ خَاصَّةً دِينَ فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَدِينُ لِأَنَّ اللَّفْظَ جُعِلَ عِبَارَةً عَنْ مُطْلَقِ الْوَقْتِ فِي عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ فَلَا يُصَدَّقُ فِي الصَّرْفِ عَنْهُ، وَإِنْ قَالَ لَيْلَةَ أُكَلِّمُ فُلَانًا أَوْ لَيْلَةَ يَقْدَمُ فُلَانٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَكَلَّمَهُ نَهَارًا أَوْ قَدِمَ نَهَارًا لَا تَطْلُقُ لِأَنَّ اللَّيْلَةَ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِسَوَادِ اللَّيْلِ، يُقَالُ لِلَّيْلَةِ الْمُظْلِمَةِ: لَيْلَةٌ لَيْلَاءُ وَلَيْلٌ أَلْيَلُ، وَلَا عُرْفَ هاهنا يَصْرِفُ اللَّفْظَ عَنْ مُقْتَضَاهُ لُغَةً حَتَّى لَوْ ذَكَرَ اللَّيَالِيَ حُمِلَتْ عَلَى الْوَقْتِ الْمُطْلَقِ لِأَنَّهُمْ تَعَارَفُوا اسْتِعْمَالَهَا فِي الْوَقْتِ الْمُطْلَقِ، مَعْرُوفٌ ذَلِكَ فِي أَشْعَارِهِمْ كَمَا قَالُوا لَيَالِيَ لَاقَتْنَا جُذَامٌ وَحِمْيَرُ وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ يَوْمَ يَقْدَمُ فُلَانٌ فَأَمْرُكِ بِيَدِكِ فَقَدِمَ فُلَانٌ لَيْلًا لَا يَكُونُ لَهَا مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ لِأَنَّ ذِكْرَ الْيَوْمِ فِي حَالِ الْأَمْرِ ذِكْرِ يُرَادُ بِهِ الْوَقْتُ الْمُعَيَّنُ، لِأَنَّ ذِكْرَ الْأَمْرِ يَقْتَضِي الْوَقْتَ لَا مَحَالَةَ وَهُوَ الْمَجْلِسُ، لِأَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ جَعَلُوا لِلْمُخَيَّرَةِ الْخِيَارَ مَا دَامَتْ فِي مَجْلِسِهَا، فَقَدْ وَقَّتُوا لِلْأَمْرِ وَقْتًا، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ اُسْتُغْنِيَ عَنْ الْوَقْتِ فَيَقَعُ ذِكْرُ الْيَوْمِ عَلَى بَيَاضِ النَّهَارِ، فَإِذَا قَدِمَ نَهَارًا صَارَ الْأَمْرُ بِيَدِهَا عَلِمَتْ أَوْ لَمْ تَعْلَمْ، وَيَبْطُلُ بِمُضِيِّ الْوَقْتِ لِأَنَّ هَذَا أَمْرٌ مُوَقَّتٌ فَيَبْطُلُ بِمُضِيِّ الْوَقْتِ، وَالْعِلْمُ لَيْسَ بِشَرْطٍ؛ كَمَا إذَا قَالَ أَمْرُكِ بِيَدِكِ الْيَوْمَ فَمَضَى الْيَوْمُ أَنَّهُ يَخْرُجُ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا.
وَأَمَّا فِي الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ فَيَقْتَصِرُ عَلَى مَجْلِسِ عِلْمِهَا، وَلَوْ قَالَ لَيْلَةَ يَقْدَمُ فُلَانٌ فَأَمْرُكِ بِيَدِكِ فَقَدِمَ نَهَارًا لَمْ يَثْبُتْ لَهَا ذَلِكَ الْأَمْرُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ اللَّيْلَةَ عِبَارَةٌ عَنْ سَوَادِ اللَّيْلِ.
وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ: إذَا قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُك الْجُمُعَةَ فَلَهُ أَنْ يُكَلِّمَهُ فِي غَيْرِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ لِأَنَّ الْجُمُعَةَ اسْمٌ لِيَوْمٍ مَخْصُوصٍ كَمَا لَوْ قَالَ لَا أُكَلِّمُك يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: جُمَعًا لَهُ أَنْ يُكَلِّمَهُ فِي غَيْرِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ لِأَنَّ الْجَمْعَ جُمَعٌ وَهِيَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ فَلَا يَتَنَاوَلُ غَيْرَهُ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لَا أُكَلِّمُهُ أَيَّامًا أَنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ اللَّيَالِيُ لِأَنَّا إنَّمَا عَرَفْنَا ذَلِكَ بِعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: {ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إلَّا رَمْزًا}.
وَقَالَ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} وَالْقِصَّةُ وَاحِدَةٌ وَمِثْلُ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ لَمْ يُوجَدْ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ جُمَعًا، ثُمَّ إذَا قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُك جُمَعًا فَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ جُمَعٍ لِأَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ الصَّحِيحِ ثَلَاثَةٌ عِنْدَنَا فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ مُتَيَقَّنًا، وَإِذَا قَالَ: الْجُمَعُ فَهُوَ عَلَى عَشْرِ جُمَعٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَكَذَلِكَ الْأَيَّامُ وَالْأَزْمِنَةُ وَالْأَحَايِينِ وَالشُّهُورُ وَالسُّنُونُ أَنَّ ذَلِكَ يَقَعُ عَلَى عَشَرَةِ أَيَّامٍ وَعَشَرَةِ أَحَايِينَ أَوْ أَزْمِنَةٍ وَعَشَرَةِ أَشْهُرٍ وَعَشَرَةِ سِنِينَ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فِي الْجُمَعِ وَالسِّنِينَ إنَّهُ يَقَعُ عَلَى الْأَبَدِ.
وَكَذَا فِي الْأَحَايِينِ وَالْأَزْمِنَةِ وَفِي الْأَيَّامِ عَلَى سَبْعَةٍ، وَفِي الشُّهُورِ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ، وَالْأَصْلُ عِنْدَهُمَا فِيمَا دَخَلَ عَلَيْهِ حَرْفُ التَّعْرِيفِ وَهُوَ اللَّامُ مِنْ أَسْمَاءِ الْجَمْعِ أَنْ يُنْظَرَ إنْ كَانَ هُنَاكَ مَعْهُودٌ يَنْصَرِفُ إلَيْهِ كَالسَّبْعَةِ فِي الْأَيَّامِ وَالِاثْنَيْ عَشَرَ فِي الشُّهُورِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَعْهُودٌ يَنْصَرِفُ إلَى جَمِيعِ الْجِنْسِ فَيَسْتَغْرِقُ الْعُمْرَ كَالسِّنِينَ وَالْأَحَايِينِ وَالْأَزْمِنَةِ، وَالْأَصْلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَنْصَرِفُ ذَلِكَ إلَى أَقْصَى مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ لَفْظُ الْجَمْعِ عِنْدَ اقْتِرَانِهِ بِالْعَدَدِ وَذَلِكَ عَشَرَةٌ (وَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ اللَّفْظَ الْمُعَرَّفَ إذَا لَمْ يُصْرَفْ إلَى الْجِنْسِ فَإِمَّا أَنْ يُصْرَفَ إلَى الْمَعْهُودِ وَإِمَّا أَنْ يُصْرَفَ إلَى بَعْضِ الْجِنْسِ، وَالصَّرْفُ إلَى الْمَعْهُودِ أَوْلَى لِأَنَّهُ لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْإِدْرَاجِ وَفِي الصَّرْفِ إلَى الْبَعْضِ يُحْتَاجُ إلَى إدْرَاجِ لَفْظَةِ الْبَعْضِ فَكَانَ الصَّرْفُ إلَى الْمَعْهُودِ أَوْلَى، وَالْمَعْهُودُ فِي الْأَيَّامِ السَّبْعَةُ الَّتِي يَتَرَكَّبُ مِنْهَا الْأُسْبُوعُ وَهِيَ مِنْ السَّبْتِ إلَى الْجُمُعَةِ، وَفِي الشُّهُورِ الِاثْنَيْ عَشَرَ الَّتِي تُرَكَّبُ مِنْهَا السَّنَةُ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَعْهُودٌ فَالصَّرْفُ إلَى الْجِنْسِ أَوْلَى فَيُصْرَفُ إلَيْهِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ: اسْتِعْمَالُ أَرْبَابِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَأَهْلِ اللِّسَانِ فِي الْجُمُوعِ فَإِنَّ أَقْصَى مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ لَفْظُ الْجَمْعِ عِنْدَ اقْتِرَانِهِ بِالْعَدَدِ هُوَ الْعَشَرَةُ، وَيُقَالُ: ثَلَاثَةُ رِجَالٍ وَأَرْبَعَةُ رِجَالٍ وَعَشَرَةُ رِجَالٍ، ثُمَّ إذَا جَاوَزَ الْعَشَرَةَ يُقَالُ: أَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا وَعِشْرُونَ رَجُلًا وَمِائَةُ رَجُلٍ وَأَلْفُ رَجُلٍ وَلِأَنَّ لَفْظَ الْجَمْعِ يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ قَدْرٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْدَارِ الَّتِي ذَكَرْنَا إلَى الْعَشَرَةِ فِي حَالَةِ الْإِبْهَامِ وَالتَّعْيِينِ جَمِيعًا، وَيُطْلَق عَلَى مَا وَرَاءَهَا مِنْ الْأَقْدَارِ فِي حَالَةِ الْإِبْهَامِ وَلَا يُطْلَقُ فِي حَالَةِ التَّعْيِينِ، وَالِاسْمُ مَتَى كَانَ ثَابِتًا لِشَيْءٍ فِي حَالَيْنِ كَانَ أَثْبَتَ مِمَّا هُوَ اسْمٌ لَهُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ بَلْ يَكُونُ نَازِلًا مِنْ الْأَوَّلِ مَنْزِلَةَ الْمَجَازِ مِنْ الْحَقِيقَةِ فَكَانَ الصَّرْفُ إلَى مَا هُوَ اسْمٌ لَهُ فِي الْحَالَيْنِ أَوْلَى فَلِهَذَا اُقْتُصِرَ عَلَى الْعَشَرَةِ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ أَيَّامًا فَقَدْ ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ عَلَى عَشَرَةِ أَيَّامٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَسَوَاءٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِمَامِ.
وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ أَنَّهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهَا الْخِلَافَ وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ ذَكَرَ لَفْظَ الْجَمْعِ مُنَكَّرًا فَيَقَعُ عَلَى أَدْنَى الْجَمْعِ الصَّحِيحِ، وَهُوَ ثَلَاثَةٌ عِنْدَنَا، وَلَوْ قَالَ لَا أُكَلِّمُكَ سِنِينَ فَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ سِنِينَ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْأَيَّامِ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ الْعُمْرَ فَهُوَ عَلَى جَمِيعِ الْعُمْرِ إذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ، وَلَوْ قَالَ عُمْرًا فَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ: فِي رِوَايَةٍ يَقَعُ عَلَى يَوْمٍ، وَفِي رِوَايَةٍ يَقَعُ عَلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ كَالْحِينِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ حُقُبًا فَهُوَ عَلَى ثَمَانِينَ سَنَةً لِأَنَّهُ اسْمٌ لَهُ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ أَيَّامًا كَثِيرَةً فَهُوَ عَلَى عَشَرَةِ أَيَّامٍ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ مِثْلَهُ لِأَنَّهُ أَدْخَلَ الْكَثْرَةَ عَلَى اسْمِ الْجَمْعِ فَصَارَ كَمَا لَوْ ذُكِرَ فَاللَّامُ الْجِنْسِ.
وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَقَعُ عَلَى سَبْعَةِ أَيَّامٍ، وَلَوْ قَالَ لَا أُكَلِّمُكَ كَذَا وَكَذَا يَوْمًا فَهُوَ عَلَى أَحَدٍ وَعِشْرِينَ لِأَنَّهُ أَقَلُّ عَدَدِ يُعْطَفُ عَلَى عَدَدٍ بِحَرْفِ الْعَطْفِ، وَلَوْ قَالَ كَذَا كَذَا يَوْمًا فَهُوَ عَلَى أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا، وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ بِضْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا لِأَنَّ الْبِضْعَ مِنْ ثَلَاثَةٍ إلَى تِسْعَةٍ فَيُحْمَلُ عَلَى أَقَلِّهَا، وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ إلَى بَعِيدٍ يَقَعُ عَلَى شَهْرٍ فَصَاعِدًا، وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ إلَى قَرِيبٍ وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَهُوَ عَلَى أَقَلَّ مِنْ شَهْرٍ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ عَاجِلًا وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَهُوَ عَلَى أَقَلَّ مِنْ شَهْرٍ لِأَنَّ الشَّهْرَ فِي حُكْمِ الْكَثِيرِ لِأَنَّهُ يُجْعَلُ أَجَلًا فِي الدُّيُونِ فَكَانَ بَعِيدًا وَآجِلًا وَمَا دُونَهُ عَاجِلًا، وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ مَلِيًّا يَقَعُ عَلَى شَهْرٍ كَالْبَعِيدِ سَوَاءٌ إلَّا أَنْ يَعْنِيَ بِهِ غَيْرَهُ.
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ قَالَ وَاَللَّهِ لَأَهْجُرَنَّكَ مَلِيًّا فَهُوَ عَلَى شَهْرٍ وَأَكْثَرَ، فَإِنْ نَوَى أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يُدَيَّنْ فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ جَاءَ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ،: {وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} أَيْ طَوِيلًا وَهَذَا يَقْتَضِي مَا زَادَ عَلَى شَهْرٍ، وَلَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يُكَلِّمَهُ الشِّتَاءَ فَأَوَّلُ ذَلِكَ إذَا لَبِسَ النَّاسُ الْحَشْوَ وَالْفِرَاءَ وَآخِرُ ذَلِكَ إذَا أَلْقَوْهَا عَلَى الْبَلَدِ الَّذِي حَلَفَ فِيهِ، وَالصَّيْفُ عَلَى ضِدِّهِ، وَهُوَ مِنْ حِينِ إلْقَاءِ الْحَشْوِ إلَى لُبْسِهِ، وَالرَّبِيعُ آخِرُ الشِّتَاءِ وَمُسْتَقْبَلُ الصَّيْفِ إلَى أَنْ يَيْبَسَ الْعُشْبُ، وَالْخَرِيفُ فَصْلٌ بَيْنَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، وَالْمَرْجِعُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ إلَى اللُّغَةِ.
وَقَالَ خَلَفُ بْنُ أَيُّوبَ: سَأَلْتُ مُحَمَّدًا عَنْ رَجُلٍ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ رَجُلًا إلَى الْمَوْسِمِ.
قَالَ: يُكَلِّمُهُ إذَا أَصْبَحَ يَوْمَ النَّحْرِ لِأَنَّهُ أَوَّلُ الْمَوْسِمِ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ يُكَلِّمُهُ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ يَوْمَ عَرَفَةَ لِأَنَّهُ وَقْتُ الرُّكْنِ الْأَصْلِيِّ وَهُوَ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ.
وَقَالَ عُمَرُ وَعَنْ مُحَمَّدٍ: غُرَّةُ الشَّهْرِ وَرَأْسُ الشَّهْرِ أَوَّلُ لَيْلَةٍ وَيَوْمُهَا، وَأَوَّلُ الشَّهْرِ إلَى مَا دُونَ النِّصْفِ، وَآخِرُهُ إلَى مُضِيِّ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيمَنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ أَوَّلَ يَوْمٍ مِنْ آخِرِ الشَّهْرِ وَآخِرَ يَوْمٍ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ فَعَلَيْهِ صَوْمُ الْيَوْمِ الْخَامِسَ عَشَرَ وَالسَّادِسَ عَشَرَ لِأَنَّ الْخَامِسَ عَشَرَ آخِرُ أَوَّلِهِ وَالسَّادِسَ عَشَرَ أَوَّلُ آخِرِهِ، إذَا قَالَ وَاَللَّهِ لَأُكَلِّمَنَّكَ أَحَدَ يَوْمَيْنِ أَوْ لَأَخْرُجَنَّ أَحَدَ يَوْمَيْنِ، أَوْ قَالَ: الْيَوْمَيْنِ، أَوْ قَالَ: أَحَدَ أَيَّامِي فَهَذَا كُلُّهُ عَلَى أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ أَيَّامٍ، إنْ كَلَّمَهُ قَبْلَ الْعَشَرَةِ أَوْ خَرَجَ قَبْلَ الْعَشَرَةِ لَمْ يَحْنَثْ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يُرَادُ بِهِ يَوْمَانِ بِأَعْيَانِهِمَا وَإِنَّمَا يُذْكَرُ عَلَى طَرِيقِ التَّقْرِيبِ عَلَى طَرِيقِ الْعَشَرَةِ وَمَا دُونَهَا فِي حُكْمِ الزَّمَانِ الْحَاضِرِ، فَإِنْ قَالَ أَحَدَ يَوْمَيَّ هَذَيْنِ فَهَذَا عَلَى يَوْمِهِ ذَلِكَ وَالْغَدِ لِأَنَّهُ أَشَارَ إلَى الْيَوْمَيْنِ وَالْإِشَارَةُ تَقَعُ عَلَى الْمُعَيَّنِ.
وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا وَفُلَانًا هَذِهِ السَّنَةَ إلَّا يَوْمًا فَإِنْ جَمَعَ كَلَامَهُمَا فِي يَوْمٍ لَهُ اسْتَثْنَاهُ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ الْيَوْمَ الَّذِي يُكَلِّمُهُمَا فِيهِ مُسْتَثْنًى مِنْ الْيَمِينِ، فَإِنْ كَلَّمَ أَحَدَهُمَا فِي يَوْمٍ وَالْآخَرَ فِي يَوْمٍ حَنِثَ لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى يَوْمٌ يُكَلِّمُهُمَا جَمِيعًا فِيهِ وَلَوْ يُوجَدُ فَقَدْ كَلَّمَهُمَا فِي غَيْرِ الْيَوْمِ الْمُسْتَثْنَى فَيَحْنَثُ فَإِنْ كَلَّمَ أَحَدَهُمَا ثُمَّ كَلَّمَهُمَا جَمِيعًا فِي يَوْمٍ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّ الْيَوْمَ الَّذِي كَلَّمَهُمَا فِيهِ مُسْتَثْنًى، وَشَرْطُ الْحِنْثِ فِي غَيْرِهِ كَلَامُهُمَا لَا كَلَامُ أَحَدِهِمَا، وَإِنْ كَلَّمَهُمَا فِي يَوْمٍ آخَرَ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ وَقَعَ عَلَى يَوْمٍ مُنَكَّرٍ يُكَلِّمُهُمَا فِيهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ إلَّا يَوْمَ أُكَلِّمُهُمَا فِيهِ، وَلَوْ اسْتَثْنَى يَوْمًا مَعْرُوفًا فَكَلَّمَ أَحَدَهُمَا فِيهِ وَالْآخَرَ فِي الْغَدِ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّ شَرْطَ الْحِنْثِ فِي غَيْرِ الْيَوْمِ الْمُسْتَثْنَى كَلَامُهُمَا وَلَمْ يُوجَدْ فَلَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ بَلْ بَعْضُهُ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ إذَا قَالَ: لَا أُكَلِّمُهُمَا إلَّا يَوْمًا لَمْ يَحْنَثْ بِكَلَامِهِمَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ وَإِنْ كَلَّمَهُمَا فِي يَوْمٍ آخَرَ حَنِثَ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَثْنِ إلَّا يَوْمًا وَاحِدًا وَقَدْ وُجِدَ فَصَارَتْ الْيَمِينُ بَعْدَهُ مُطْلَقَةً.
وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ إذَا قَالَ لَا أُكَلِّمُكَ شَهْرًا إلَّا يَوْمًا أَوْ قَالَ غَيْرَ يَوْمٍ أَنَّهُ عَلَى مَا نَوَى، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَلَهُ أَنْ يَتَحَرَّى أَيَّ يَوْمٍ شَاءَ لِأَنَّهُ اسْتَثْنَى يَوْمًا مُنَكَّرًا وَكُلُّ يَوْمٍ مِنْ الشَّهْرِ يَصْلُحُ لِلِاسْتِثْنَاءِ، فَإِنْ قَالَ نُقْصَانَ يَوْمٍ فَهَذَا عَلَى تِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا لِأَنَّ نُقْصَانَ الشَّهْرِ يَكُونُ مِنْ آخِرِهِ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا أَوْ فُلَانًا فَكَلَّمَ أَحَدَهُمَا حَنِثَ لِأَنَّ كَلِمَةَ أَوْ إذَا ذُكِرَتْ عَقِيبَ كَلِمَةِ النَّفْيِ أَوْجَبَتْ انْتِفَاءَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَذْكُورِينَ عَلَى الِانْفِرَادِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} أَيْ وَلَا كَفُورًا، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: وَلَا فُلَانًا لِأَنَّ كَلِمَةَ النَّفْيِ إذَا أُعِيدَتْ تَنَاوَلَتْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَذْكُورِينَ عَلَى حِيَالِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا وَفُلَانًا لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يُكَلِّمَهُمَا لِأَنَّ حَرْفَ الْوَاوِ لِلْجَمْعِ، وَالْجَمْعُ بِحَرْفِ الْجَمْعِ كَالْجَمْعِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ، فَكَأَنَّهُ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُمَا، فَقَدْ عَلَّقَ الْجَزَاءَ بِشَرْطَيْنِ فَلَا يَنْزِلُ عِنْدَ وُجُودِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا وَفُلَانًا أَوْ فُلَانًا فَإِنْ كَلَّمَ أَحَدَ الْأَوَّلَيْنِ لَا يَحْنَثُ مَا لَمْ يُكَلِّمْهُمَا، وَإِنْ كَلَّمَ الثَّالِثَ حَنِثَ لِأَنَّهُ جَعَلَ شَرْطَ الْحِنْثِ كَلَامَ الْأَوَّلَيْنِ جَمِيعًا أَوْ كَلَامَ الثَّالِثِ، فَأَيُّ ذَلِكَ وُجِدَ حَنِثَ، وَلَوْ قَالَ: لَا أُكَلِّمُ هَذَا أَوْ هَذَا وَهَذَا فَإِنْ كَلَّمَ الْأَوَّلَ حَنِثَ، وَإِنْ كَلَّمَ أَحَدَ الْآخَرَيْنِ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّهُ جَعَلَ شَرْطَ الْحِنْثِ كَلَامَ الْأَوَّلِ أَوَّلًا ثُمَّ الْآخَرَيْنِ فَيُرَاعَى شَرْطُهُ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ النَّاسَ أَوْ لَا يُكَلِّمُ بَنِي آدَمَ فَكَلَّمَ وَاحِدًا مِنْهُمْ يَحْنَثُ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْجِنْسِ وَالْعُمُومِ لِأَنَّ الْحَالِفَ إنَّمَا يَمْنَعُ نَفْسَهُ عَمَّا فِي وُسْعِهِ، وَلَيْسَ فِي وُسْعِهِ تَكْلِيمُ النَّاسِ كُلِّهِمْ، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُرَادَهُ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ فَقَالَ: أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَنْ يُكَلِّمَ بَنِي آدَمَ كُلَّهُمْ، وَلَيْسَ هاهنا مَعْهُودٌ يُصْرَفُ اللَّفْظُ إلَيْهِ فَتَعَيَّنَ الصَّرْفُ إلَى بَعْضِ الْجِنْسِ، وَيُضْمَرُ فِيهِ لَفْظَةُ الْبَعْضِ، وَإِنْ عَنَى بِهِ الْكُلَّ لَا يَحْنَثُ أَبَدًا، وَيَكُونُ مُصَدَّقًا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَفِي الْقَضَاءِ أَيْضًا، لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ وَهِيَ الْجِنْسُ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ لَا يُرَادُ الْجِنْسُ بِهَذَا الْكَلَامِ فَقَدْ نَوَى خِلَافَ الظَّاهِرِ فَلَا يُصَدَّقُ قَضَاءً وَعَلَى هَذَا إذَا حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ أَوْ لَا يَشْتَرِي الْعَبِيدَ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَبْتَدِئُ فُلَانًا بِكَلَامِهِ أَبَدًا فَالْتَقَيَا فَسَلَّمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ مَعًا لَمْ يَحْنَثْ الْحَالِفُ لِعَدَمِ شَرْطِ الْحِنْثِ وَهُوَ ابْتِدَاؤُهُ فُلَانًا بِالْكَلَامِ لِأَنَّ ذَلِكَ بِتَكْلِيمِهِ قَبْلَ تَكْلِيمِ صَاحِبِهِ وَلَمْ يُوجَدْ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ إنْ كَلَّمْتُكَ قَبْلَ أَنْ تُكَلِّمَنِي فَإِنَّهُ لَمَّا خَرَجَ كَلَامَاهُمَا مَعًا فَلَمْ يُكَلِّمْ الْحَالِفُ قَبْلَ تَكْلِيمِهِ فَلَمْ يُوجَدْ شَرْطُ الْحِنْثِ، وَلَوْ قَالَ إنْ كَلَّمْتُكَ حَتَّى تُكَلِّمَنِي فَتَكَلَّمَا مَعًا لَمْ يَحْنَثْ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ يَحْنَثُ.
وَجْهُ قَوْلِهِ: إنَّ الْحَالِفَ بِقَوْلِهِ إنْ كَلَّمْتُكَ مَنَعَ نَفْسَهُ عَنْ تَكْلِيمِهِ مُطْلَقًا وَجَعَلَ تَكْلِيمَ صَاحِبِهِ إيَّاهُ غَايَةً لِانْحِلَالِ الْيَمِينِ، فَإِذَا كَلَّمَهُ قَبْلَ وُجُودِ الْغَايَةِ حَنِثَ، وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ غَرَضَ الْحَالِفِ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ أَنْ يَمْنَعَ نَفْسَهُ عَنْ تَكْلِيمِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ قَبْلَ كَلَامِهِ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: إنْ بَدَأْتُكَ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا قَالَ لَا أُكَلِّمُكَ إلَّا أَنْ تُكَلِّمَنِي لِأَنَّ كَلِمَةَ (إلَّا أَنْ) إذَا دَخَلَتْ عَلَى مَا يَتَوَقَّتُ كَانَتْ بِمَعْنَى حَتَّى.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمْ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ حَتَّى يَدْخُلَهَا فُلَانٌ وَحَلَفَ الْآخَرُ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ فَدَخَلَا جَمِيعًا لَمْ يَحْنَثْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَيَحْنَثُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.